العمر الثقافي هو عمر الإنسان الثالث ضمن نماذجه العمرية التي تختص بشتى نواحي حياته ، فالعمر الوجودي هو تاريخ كينونته في هذه الحياة المحدد بولادته و وفاته ، و العمر الإنتاجي هو تاريخ حياته الإنتاجية الخاضع لمدى مشاركته في خدمة الغير ، سواءً أكانت هاته الخدمة انتظامية رسمية أم تطوعية ، و العمر الثالث هو عمره الثقافي ، وهذا العمر هو أهم هذه الأعمار الثلاثة -في نظري- لأنه يجمع بين الذات و الآخر ، ولأنه لا يتطلب مرحلة عمرية من كينونته بل هو عمرٌ يشترك فيه الصغير و الكبير ويشترك فيه المنتج و غير المنتج لذا فإنه يُعتبر أكثر عمومية من العمرين الآخريْن .
و قد يكون أفضل قياس لقيمة الإنسان ( والإنسان هنا اسم جنس يشمل الأنثى و الذكر) هو قياس ثقافته و علمه ، لذا فإن الأثر المشهور " قيمة كل امريء ما يحسن" يعنون حياة الإنسان الثقافية ويشحذها نحو الاستهلاك و الانتاج الثقافي ، ويحصر القيمة الأساسية للإنسان بما يحسنه من ثقافة و مهنية تتعلق بالعمر الانتاجي ، وبذا يكون هذا الأثر جامع للعمرين الثقافي و الانتاجي .
و أزعم أنه لا يمكن لنا أنْ نثني على عمر الإنسان الوجودي في قصره و طوله لأنه أمرٌ خارج عن إرادة الإنسان ، وارتباطه بالقدر المكتوب أكثر من ارتباطه بفاعلية الإنسان ذاته ، لكننا نملك الحق اليقين في ثنائنا على ذاك الإنسان الذي اهتم بتطوير ذاته و ثقافته باطلاعه على شتى سبل مصادر الثقافة التقليدية و الحديثة لأنه اختار هذا التطوير بذاته و رغب في أن يكوّن له عمرًا ثقافيًا يوازي أو يفوق عمره الوجودي ، وهذا الحرص على الرقي بعمره الثقافي هو الذي أكسبه التميّز و الثناء .
و لعل العلاقة بين العمرين الوجودي (باعتباره الأصل) و العمر الثقافي هي علاقة طردية ، فكلما زاد عمر الإنسان الوجودي ينبغي أن يُضاعف عمره الثقافي ، فالعمر الثقافي يكون أفضل حينما يفوق العمر الوجودي ، فالشاب الذي يبلغ عمره عشرين عامًا قد يملك عمرًا ثقافيًا أكبر من عمره الوجودي وحينها نحكم لهذا الشاب بالتميز و الرقي الثقافي و يُعتبر هذا الشاب قد بزّ أصدقاءه الذين هم في مستوى عمره الوجودي لكنهم أقل بكثير من عمره الثقافي ، وبذا تكون الميّزة للعمر الثقافي لا العمر الوجودي ؛ فيتغلب العمر الثقافي عليه و يصبح ميّزةً ملازمةً له حتى يفقد عمره الوجودي بالموت .
إننا حتمًا لا نستطيع تغيير عمرنا الوجودي لكن من السهل أن نتحكم في تغيير عمرنا الثقافي بالاطلاع ، والاطلاع هنا يشمل كل مصادر الثقافة التي تنمي وعينا ، فقد تكون هذه المصادر بصرية كالقراءة و الأفلام أو مصادر شفاهية كسماع المحاضرات الفكرية و الثقافية المتنوعة ، وفي مرحلتنا التقنية أضحى تطوير عمرنا الثقافي أسهل من ذي قبل لأننا نملك كمًّا هائلًا من المواد الثقافية المتوفرة بين أيدينا عبر أجهزتنا الإلكترونية الخاصة في منازلنا بل وتذهب معنا حيثما كنا ، وهذه الخاصيّة التي منتحتنا إياها التقنية لم تكن متوفرة لأجيال سبقتنا بأعوام قريبة ، فنحن الآن مغبوطون من الجيل السالف لنا لأننا نستطيع أن نقفز قفزات عظيمة جدًا بأعمارنا الثقافية في سنوات ضئيلة جدًا من أعمارنا الوجودية ، و يتوقف هذا كله على مدى همّة الإنسان في مضاعفة عمره الثقافي أضعاف عمره الوجودي .